إنَّ البحث الذي بين أيدينا يُمثِّل مُحاولة بحثية للإجابة عن إشكالية قديمة مُتجددة حول: إلى أي مدى تُؤثِّرُ البيئة المجتمعية على طبيعة النظم القانونية في المجتمع؟ وإذا سلمنا جدلاً بوجود التداعم والتلاقح الحضاري بين الشعوب فهل من الممكن أن يُؤدي ذلك إلى تقارب بين روح القوانين بالنسبة للبيئات الحضارية المختلفة؟، إنَّ النظام القانوني لأي مجتمع بالضرورة مُختلفٌ بطبيعته عن أي نظام قانوني لأي مُجتمعٍ آخر؛ وهذا ما أكَّده المفكر شارل لوي دي مونتسكيو في مؤلفه "روح القوانين"، بمعنى أن روح النظام التنظيمي لأي مجتمع بالضرورة مُختلفة عن أي روح لمنظومة تنظيمية لأي مجتمع آخر، السؤال الذي يُطرح هنا: لماذا الاختلاف وما هي أسبابه؟
لقد أكَّد العديد من العلماء والمفكرين منذ قرون مضت كابن خلدون عبد الرحمن الحضرمي، ومونتسكيو، وبعض من العلماء المعاصرين في علم النفس والاقتصاد كفرويد وجورج لوكاتش وكارل ماركس وغيرهم حيثُ أثبتوا من خلال تحليل طبيعة المجتمعات أنها تختلف فيما بينها من حيثُ التركيبة البُنيوية: بداوةً وحضراً ومدنيةً، وأيضاً في العديد من العوامل الطبيعية كالجغرافيا والمناخ والدين والبيئة المجتمعية. وبطبيعة الحال، متى وُجِدَت اختلافات بين المجتمعات البشرية حول جملة قضايا مثل هذه المعطيات البيئية أنَّه بالضرورة يتبعها اختلافٌ في كُل ما هو تنظيمي لحيات المجتمعات الإنسانية، وكذلك تختلف المجتمعات في تفكيرها وأذواقها وقيمها وتراثها وأعرافها، في ذاكرتها الكلية، وفي شعورها الجمعي، ومِخيالها العقلي، وبالمُحصلة فإنَّ روح نظمها القانونية بشقيها (التنظيمية والضبطية) ستكون مُختلفةً كضرورة حتمية، وهذا هو مقصدٌ "روح القوانين" لمونتسكيو، لكن من حيث واقع المجتمعات اليوم فالكثير من فرض قوانين نابعة من بيئات الغير تُفرض كرهاً على مجتمعات أُخر ثم لا يوجد بينها أي قاسم مشترك من القيم أو الحاضرة أو الدين ولا الثقافة حتى ولا وحدة الطَّور الحضري للمجتمع.